التصوف

تعريف التصوف

قال القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: "التصوف علم تُعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية"، وقال سيد الطائفتين الإمام الجنيد رضي الله عنه: "التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني"، وقال بعضهم: "التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف".

فعماد التصوف إذن تصفية القلب من أوضار المادة، وقوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم، فالصوفي من صفا قلبه لله، وصفت معاملته لله، فصفت له من الله تعالى كرامته.

 

اشتقاق التصوف

كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، فمنهم من قال: "من الصوفة، لأن الصوفي مع الله تعالى كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى".

 

ومنهم من قال: "إنه من الصِّفَة، إذ جملته اتصافٌ بالمحاسن، وترك الأوصاف المذمومة".

 

ومنهم من قال: "من الصفاء"، فقد قال أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى:

تنازع الناس في الصوفي واختلفوا                وظنه البعض مشتقاً من الصوف

ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً                   صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي


ومنهم من قال: "من الصُّفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى: {واصبِرْ نفسَك مع الذين يدعونَ ربَّهم...} [الكهف: 28]. وأهلُ الصُفَّة هم الرعيل الأول من رجال التصوف، فقد كانت حياتهم التعبدية الخالصة المثل الأعلى الذي استهدفه رجال التصوف في العصور الإسلامية المتتابعة.

 

وقال الإمام القشيري:"هو من الصَّفوة".

 

وقيل: "من الصَّف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله تعالى وتسابقهم في سائر الطاعات.

ومنهم من قال: "إن التصوف نسبة إلى لبس الصوف الخشن، لأن الصوفية كانوا يؤثرون لبسه للتقشف والاخشيشان".

 

ومهما يكن من أمر، فإنّ التصوف أشهر من أن يحتاج في تعريفه إلى قياس لفظٍ، واحتياج اشتقاق. وإنكار بعض الناس على هذا اللفظ بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين مردود، إذ كثيرٌ من الاصطلاحات أُحدثت بعد زمان الصحابة، واستُعملت ولم تُنكَر، كالنحو والفقه والمنطق.

 

وعلى كل فإننا لا تهتم بالتعابير والألفاظ بقدر اهتمامنا بالحقائق والأسس. ونحن إذ ندعو إلى التصوف إنما نقصد به تزكية النفوس وصفاء القلوب وإصلاح الأخلاق والوصول إلى مرتبة الإحسان، ونحن نسمي ذلك تصوفا. وإن شئت فسمّه الجانب الروحي في الإسلام، أو الجانب الإحساني، أو الجانب الأخلاقي، أو سمّه ما شئت مما يتفق مع حقيقته وجوهره، إلا أنّ علماء الأمة قد توارثوا اسم التصوف وحقيقته عن أسلافهم من المرشدين منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، فصار عرفا فيهم.

 

 

نشأة علم التصوف

يقول الدكتور أحمد عَلْوَشْ: "قد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في صدر الإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد الصحابة والتابعين، والجواب عن هذا: إنه لم تكن من حاجة إليها في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمَّة ما يدعو إلى تلقينهم علما يرشدهم إلى أمر هم قائمون به فعلا، وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القُحّ، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابرا عن كابر، حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئا من قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن وضعف التعبير، أو لمن يريد من الأجنبي أن يفهمها ويتعرف عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع، كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.

 

فالصحابة والتابعون -وإن لم يتسموا باسم المتصوفين- كانوا صوفيين فعلا وإن لم يكونوا كذلك اسما، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات، وسائر الكمالات التي وصل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي الروحي إلى أسمى الدرجات، فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الإيمان، والقيام بفروض الإسلام، بل قرنوا الإقرار بالتذوق والوجدان، وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات، وابتعدوا عن المكروهات فضلا عن المحرمات، حتى استنارت بصائرهم، وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم. وكذلك كان شأن التابعين وتابعي التابعين، وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى عصور الإسلام وخيرها على الإطلاق، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "خير القرون قرني هذا فالذي يليه والذي يليه".

 

فلما تقادم العهد، ودخل في حظيرة الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ -بعد تدوين التوحيد في الصدر الأول- علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض "الميراث" وغيرها...

 

وحدث بعد هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئا فشيئا، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هم من ناحيتهم أيضا على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، ولم يكن ذلك منهم احتجاجا على انصراف الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم كما يظن ذلك خطأ بعض المستشرقين، بل كان يجب أن يكون سدّا للنقص، واستكمالا لحاجات الدين في جميع نواحي النشاط، مما لا بد منه لحصول التعاون على تمهيد أسباب البر والتقوى".

 

أما تاريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله، فقد سئل عن أول من أسس التصوف؟ وهل هو بوحي سماوي؟ فأجاب: "أما أول من أسس الطريقة، فلتعلم أنّ الطريقة أسّسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بيَّنها واحدا واحدا دينا بقوله: "هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم"، وهذه الأركان هي الإسلام والإيمان والإحسان.

 

فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة، هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك...".

 

ثم قال السيد محمد صديق الغماري: "فإنه -كما في الحديث- عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان، الذي هو الطريقة) فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه، فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان".

 

وأورد حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون" خلال حديثه عن علم التصوف كلاما للإمام القشيري قال فيه: "اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْم سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم: الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة".

 

من هذه النصوص السابقة، يتبين لنا أن التصوف ليس أمرا مستحدثا جديدا، بل هو مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أصول لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذين ابتدعوا أسماء مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية، فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي.

 

أهمية التصوف

إن التكاليف الشرعية التي أُمر بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أو بعبارة أخرى: أحكام تتعلق ببدن الإنسان وجسمه، وأعمال تتعلق بقلبه.

 

فالأعمال الجسمية نوعان: أوامر ونواهٍ، فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج... وأما النواهي فهي: كالقتل والزنى والسرقة وشرب الخمر... وأما الأعمال القلبية فهي أيضا: أوامر ونواهٍ، أما الأوامر: كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله كالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل... وأما النواهي: كالكفر والنفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد. وهذا القسم الثاني المتعلق بالقلب أهم من القسم الأول عند الشارع، وإن كان الكل مُهمَّا، لأن الباطن أساس الظاهر ومصدره، وأعماله مبدأ أعمال الظاهر، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمال الظاهرة، وفي ذلك قال تعالى: {فمَنْ كان يرجو لقاءَ ربِّه فلْيعملْ عملا صالحا ولا يُشرِكْ بعبادة ربِّه أحدا} [الكهف: 110].

 

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، ويبين لهم أن صلاح الإنسان متوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفية والعلل الكامنة، وهو الذي يقول: "ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، كما كان عليه الصلاة والسلام يعلمُهم أن محل نظر الله إلى عباده إنما هو القلب: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم"، فما دام صلاح الإنسان مربوطا بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة؛ تعيَّن عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها، وعندئذ يكون القلب سليما صحيحا، ويكون صاحبه من الفائزين الناجين، قال تعالى: {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ 89].

 

قال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله: "وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوها؛ فقال الغزالي: إنها فرض عين".

 

فتنقية القلب وتهذيب النفس من أهم الفرائض العينية وأوجب الأوامر الإلهية، بدليل ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال العلماء.

 

فمن الكتاب:

-       قوله تعالى: {قُلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بَطنَ} [الأعراف: 33].

-       وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ} [الأنعام: 151].

والفواحش الباطنة كما قال المفسرون هي: الحقد والرياء والحسد والنفاق...

 

 

ومن السنة كل الأحاديث التي وردت في النهي عن الحقد والكبر والرياء والحسد... وأيضا الأحاديث الآمرة بالتحلي بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة فلتراجعها في مواضعها.

 

وأما أقوال العلماء:

وهي كثيرة جدا، فمنها قول الفقيه الكبير العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: "إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من "الإحياء"، قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجا إليه. وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه".

 

 

المصدر:

من كتاب "حقائق عن التصوف" لعبد القادر عيسى (ص23-34 بتصرف)